السبت، 11 أغسطس 2012


تزكية النّفُوسْ



لفضيلة الشيخ
د. أحمد فريد
غفر الله له ، ولجميع المسلمين







الدعوة السلفية بالإسكندرية




المكتبة العصرية
والدار العالمية للنشر والتوزيع
بالإسكندرية







حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولى

1426 هـ - 2005 م









بسم الله الرحمن الرحيم


مقدمة المؤلف
نسأل الله تعالى حسن الخاتمة

إن الحمد لله نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له ،  وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً .

أما بعدُ :

فمن أكثر من خمسة عشر عاماً ، ومع تباشير الصحوة الإسلامية وفقنى الله عز وجل لجمع كتاب مختصر فى الرقائق وأسميته "  دقائق الأخبار فى رقائق الأخبار " .

وطبع هذا الكتاب أكثر من طبعة غير محققة ثم استأذننى الأخ شرف حجازى فى طبع الكتاب بعد أن حققه بعض الإخوة الأفاضل فأذنت له ومضى على ذلك مدة ، ثم نزل الكتاب باسم " تزكية النفوس " وبتحقيق الأخ: " ماجد أبو الليل " وانتشر الكتاب بفضل الله عزَّ وجلَّ  وفوجئت بطبعات بيروتية باسم دار القلم ليس لها خطام ولا زمام ، فلا أدرى هل كان هذا باتفاق مع المحقق أو على الطريقة البيروتية في الطباعة وعلى كل حال ليس ذلك بإذن المؤلف ، ولما كان الكتاب من أول ما كتبته مع  قلة المراجع وقلة العلم والخبرة اشتمل الكتاب على بعض الأحاديث الضعيفة فأردت أن أبرىء ساحتى من هذه الأحاديث وأن أتعامل معها كما تعاملت مع " البحر الرائق" و " مختصر بغية الإنسان"  وغيرهما من حذف الضعيف  وإعادة تحقيق الكتاب وتجهيزه لطبعة اقتصادية ، وتسهيل الحصول عليه لإخواننا من المبتدئين فى طلب العلم .

وزدت فى هذه الطبعة بعض الزيادات واستبدلت بعض الأحاديث الضعيفة بأحاديث صحيحة وربما استبدلت بعض الصحيح الذى ليس فى الصحيحين  بما يغنى عنه من أحاديث الصحيحين ولا شك أن مؤلف الكتاب أولى بتحقيقه والناظر فى الجهد المبذول سوف يجد بإذن الله تعالى فائدة جديدة ، وكم من كتاب حققه أكثر من محقق واستفاد الناس من مجهود كل محقق ، وقد حافظت على اسم الكتاب دفعاً للتدليس وحتى لايشتريه أحد وهو يملكه ظناً منه أنه مصنف جديد .

أما عن موضوع الكتاب  فهو كتاب مختصر عن تزكية النفوس ، ويقصد بتزكية النفوس تطهيرها وتطييبها ، حتى تستجيب لربها وتفلح فى دنياها وآخرتها كما قال تعالى : } قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا {   ( الشمس : 9-10) .

وهى دعوة النبى r: ( اللهم آت نفسى تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها ) ([1]) .

فيبدأ الكتاب بمعرفة ما يقبل به العلم من شرطى الإخلاص والمتابعة ثم فضل العلم والعلماء، ثم بيان أحوال القلوب وأقسامها وعلامات مرضها وسقمها، وأسباب صحتها وأسباب سقمها فإن الناس لا يحتاجون إلى الوصية بأجسادهم لحفظ حياتها ودفع هلاكها، فكلهم يأكل ما يفيده ويترك ما يتحقق مضرته، ولكنهم يتناولون السموم الضارة المهلكة لقلوبهم، ويزهدون فى الأغذية النافعة لها، حتى صارت الأجسام لها قبورٌ إلا من رحم ربك وقليل ما هم .

ثم ذكرت باباً فى محاسبة النفس ، وباباً فى الزهد وأضرار حب الدنيا ، وللأسف قسم هذا الموضوع فى جميع الطبعات السابقة مع أنه موضوع واحد فالتأم شمله بفضل الله عزّ وجلّ فى هذه الطبعة .

ثم ذكرت عدة عبادات من أحب العبادات إلى الله عزّ وجلّ لا تصلح القلوب إلا بها كالصبر والشكر والرجاء والخوف والمحبة والتوكل  والرضا، وختمت هذه الجولة  الطيبة فى الرقائق وما تزكو به النفس  بالتوبة التى هى وظيفة  العمر والسبب الموصل إلى محبة الله عزّ وجلّ : } إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ {  ( البقرة : من الآية222) .

فنسأل الله أن يوفقنا لتوبة نصوح وأن يتقبل منا صالح الأعمال وأن يتجاوز عما فيها من نقص وزلل، وأن يجعل خير أعمالنا خواتيمها وخير أيامنا يوم نلقاه ، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه والحمد لله رب العالمين .
                                          المؤلف









الإخلاص والمتابعة
شرطان لقبول العمل:

لا يقبل الله عز وجل عملاً من الأعمال حتى يتوفر فيه شرطان فالأول : هو الإخلاص وهو شرط الباطن ، والثانى : هو متابعة سنة الرسولr وهو شرط الظاهر ،  ودل على هذا المعنى كتاب الله المنزل وسنة النبى المرسل r .

قال الله تعالى : } الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا {  ( الملك : من الآية2) .

قال الفضيل بن عياض: هو أخلصه فإن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل ، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل .

وقال تعالى: } فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا ولا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا {   ( الكهف من الآية : 110) .

فالعمل الصالح هو الموافق للسنة وعدم الشرك هو الإخلاص .

وقال تعالى: } وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ {   ( النساء : من الآية 125) .

فإسلام الوجه هو الإخلاص، والإحسان هو متابعة سنة النبى r .


أ -  الإخلاص:-

الإخلاص: هو تجريد قصد التقرب إلى الله عز وجل عن جميع الشوائب .

وقيل : هو إفراد الله عز وجل بالقصد فى الطاعات .

وقيل : هو نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق .

والإخلاص شرط لقبول العمل الصالح الموافق لسنة رسول الله r ، وقد أمرنا الله عز وجل به فقال تعالى :  } وَمَا أُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء {   ( البينة : من الآية 5) .

وعن أبى أمامة t قال: جاء رجل إلى رسول الله r فقال : أرأيت رجل غزا يلتمس الأجرَ والذكْر ماله ؟ فقال رسول الله r : ( لا شىء له )، بأعادها ثلاث مرات ويقول رسول الله r : (لاشىء له)، ثم قال: ( إن الله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً  وابتغى به وجهه ) ([2]) .

وعن أبى سعيد الخدرى t عن النبى r  أنه قال فى حجة الوداع: (نضر الله امرءاً سمع مقالتى فوعاها ، فرب حامل لفقه ليس بفقيه ، ثلاث لايغل عليهن قلب امرىء  مؤمن: إخلاص العمل لله، والمناصحة لأئمة المسلمين ، ولزوم جماعتهم ) ([3]) .

والمعنى: أن هذه الثلاثة تستصلح بها القلوب ، فمن تخلق بها طهر قلبه من الخيانة والدغل والشر .

ولا يتخلص العبد من الشيطان إلا بالإخلاص لقول الله عز وجل: 

} إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ {   ( ص : الآية 83) . وروى أن أحد الصالحين كان يقول لنفسه : " يانفس أخلصى تتخلصى ".

وكل حظ من حظوظ الدنيا تستريح إليه النفس، ويميل إليه القلب، قلّ أم كثر، إذا تطرق إلى العمل ، تكدربه صفوه ، وزال به إخلاصه، والإنسان مرتبط فى حظوظه ، منغمس  فى شهواته ، قلما ينفك فعلٌ من أفعاله ، وعبادةٌ من عباداته عن حظوظ وأغراض  عاجلة من هذه  الأجناس، فلذلك قيل : " من سلم له من عمره لحظةٌ واحدةٌ  خالصةٌ لوجه الله نجا " ، وذلك لعزة الإخلاص، وعُسْرِ تنقية القلب عن الشوائب ، فالإخلاص: تنقية القلب من الشوائب كلها ،  قليلها وكثيرها، حتى يتجرد فيه قصدُ التقرب فلا يكون فيه باعثُ سواه ، وهذا لا يتصور إلا من محب لله مستغرق الهم بالآخرة،بحيث لم يبق لحب الدنيا من قلبه قرارٌ ، فمثل هذا لو أكل ، أو شرب، أو  قضى حاجته ، كان خالص العمل ،صحيح النية، ومن ليس كذلك فبابُ الإخلاص مسدودٌ عليه إلا على الندور .
وكما أن مَنْ غلب عليه حب الله ، وحب الآخرة، فاكتسبت حركاتهُ الاعتيادية صفة همه ، وصارت إخلاصاً ، فالذى يغلب على نفسه الدنيا والعلو والرياسة ، وبالجملة غير الله ، اكتسبت جميع حركاته تلك الصفة، فلا تسلم له عبادةٌ من صومٍ ، وصلاة وغير ذلك إلا نادراً .

فعلاج الإخلاص كسرُ حظوظ النفس، وقطعُ الطمع عن الدنيا، والتجرد للآخرة ، بحيث يغلب ذلك على القلب، فإذ ذاك يتيسر به الإخلاص، وكم من أعمل يتعب  الإنسان فيها ، ويظن أنها خالصةٌ لوجه الله، ويكون فيها من المغرورين، لأنه لم يَرَ وجهَ الآفة ِ .

كما حُكى عن بعضهم: أنه كان يصلى دائماً فى الصف الأول، فتأخر يوماً عن الصلاة فصلى فى الصف الثانى، فاعترتْه خجلةٌ من الناس حيث رأوْه فى الصف الثانى، فَعَلم أن مسرته وراحة قلبه منِ الصلاة فى الصف الأول كانت بسبب نظر الناس إليه، وهذا دقيقٌ غامضٌ قَلّما تسلم الأعمال من أمثاله ، وقلّ من ينتبه له إلا من وفقه الله تعالى، والغافلون عنه يَرَوْنَ  حسناتهم يوم القيامة سيئات ، وهم المقصودون بقوله تعالى :  } وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا  {   ( الزمر  : من الآيتين 47 ،48) .

وبقوله عز وجل:  } قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا {   ( الكهف : الآية 103 - 104) .
بعض الآثار عن الإخلاص

قال يعقوب: "  المخلص من يكتم حسناته كما يكتم سيئاته " .

قال السوسي: " الإخلاص فَقْدُ رؤية الإخلاص ، فإن مَنْ شاهد  فى إخلاصه الإخلاص فَقد احتاج إخلاصه إلى إخلاص " . وما ذكر إشارة إلى تصفية العمل  من العُجْب بالفعل ، فإن الإلتفات إلى الإخلاص، والنظر إليه عٌجْب ، وهو من  جملة الآفات ، والخالص ما صفا عن  جميع الآفات .

قال أيوب: "تخليص النيات على العُمّال أشد عليهم من جميع الأعمال" .

وقال بعضهم: " إخلاص ساعة نجاة الأبد، ولكنّ الإخلاص عزيزٌ".

وقيل لسهل: أى شىء أشد على النفس؟ قال : " الإخلاص ،إذ ليس لها فيه نصيب " .

وقال الفُضَيْل: " ترك العمل من أجل الناس رياء ، والعملُ من أجل الناس شرك، والإخلاص : أن يعافيك الله منهما " .

فضل النيّة

عن عمر بن الخطاب t أنه قال: " أفضل الأعمال أداءُ ما افترض الله تعالى، والورعُ عما حرّم الله، وصدقٌ النية فيما عند الله تعالى " .

وقال بعض السلف: " رب عملٍ صغيرٍ تعظمه النية ، وربّ عمل كبير تصغيره النية " .

وعن يحيى بن أبي كثير:  " تعلّموا النية ، فإنها أبلغ من العمل " .

وصحّ عن ابن عمر أنه سمع رجلاً عند إحرامه يقول : اللهم إنى أريد الحج والعمرة فقال له : " أتُعْلم الناس ، أوَ ليس الله يعلم ما فى نفسك": وذلك لأن النية هى  : قصد القلب ، ولا يجب التلفظ بها فى شىء من العبادات وإنما يشرع فى الحج والعمرة  أن يقول :  لبيك اللهم بحجة  أو بعمرة أو بعمرة وحجة إن كان قارناً ، وهو الذى يسمى بالإهلال .




متابعة السنّة

والشرط الثانى لقبول العمل أن يكون العمل مطابقاً لسنة النبى r لحديث عاشئة رضى الله عنها  قالت: قال رسول الله r: " من أحدث فى  أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"  وفى رواية لمسلم: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد  ([4]) .

فهذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام ، فكما أن حديث: " الأعمال بالنيات " ميزان للأعمال فى باطنها فهو ميزان للأعمال فى ظاهرها فكما أن كل عمل لايراد به وجه الله تعالى فليس لعامله فيه ثواب فكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله فهو ردعلى عامله فقوله: " ليس عليه أمرنا " إشارة إلى أن أعمال العاملين كلها ينبغى أن تكون تحت أحكام الشريعة فتكون أحكام الشريعة حاكمة عليها بأمرها ونهيها، فمن كان عمله جارياً  تحت أحكام الشريعة موافقاً  لها  فهو مقبول، ومن كان خارجاً عن ذلك فهو مردود.

أوجب الله عزَّ وجلَّ علينا طاعة رسوله r قال تعالى:  }  وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا {   ( الحشر : من الآية 7)

وقال تعالى: } وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضلالاً مُّبِينًا {   ( الأحزاب : الآية 36)

وجعل الله عز وجل اتباع سنة رسول الله r علامة على محبته فقال تعالى: } قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ { ( آل عمران : من الآية 31)

قال الحسن البصرى:  ادعى ناس محبة الله عز وجل  فابتلاهم بهذه الآية  :  } قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي {   ...  الآية .

كما أوصى النبى  r  بالتمسك بسنته وسنة خلفائه  الراشدين فقال r : " فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتى  وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى عضّوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة " ([5]) . 

قال الزهري: الاعتصام بالسنة نجاة لأن السنة كما قال  مالك : مثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها هلك .

وقال سفيان: لايقبل قول إلا بعمل، ولا يستقيم قول وعمل إلا بنية، ولا يستقيم قول وعمل ونية إلا بمتابعة السنة .

وعن ابن شوذب قال: إن  من نعمة الله على الشاب إذا نَسُكَ أن يوفقه الله إلى صاحب سنة يحمله عليها .





فضل العلم والعلماء

والعلم هو ما قام عليه الدليل ويقصد به علم الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة رضى الله عنهم .

العلم قال الله قال رسولـــه        قال الصحابـة ليس بلتمويـه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة         بين الرسول وبين قول فقيـه

فضائله فى القرآن كثيرة، منها قوله عزَّ وجلَّ: } يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ {   ( المجادلة من الآية : 11 ) .

وقولـه عزَّ وجلَّ: } قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ {   ( الزمر من الآية : 9 ) . 

وأما الأخبار ، فقول رسول الله r: " من يرد الله به خيراً يفقهه فى الدين([6]) ، وقوله  r : " من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة " ([7]) .
وسلوك الطريق لالتماس العلم يدخل فيه سلوك الطريق الحقيقى وهو المشى بالأقدام إلى مجالس العلماء، ويدخل فيه سلوك الطريق المعنوية المؤدية إلى حصول العلم مثلُ حفظهِ ومدارسته .

وقوله r: " سهل الله له به طريقاً إلى الجنة " قد يراد بذلك أن الله يسهل له العلم الذى طلبه وسلك طريقه ، وييسره عليه، فإن العلم طريقٌ يوصل إلى الجنة، كما قال بعض السلف : " هل من طالب علمٍ فيعان عليه"، وقد يراد به طريق الجنة يوم القيامة وهو الصراط وما قبله  وما بعده .

والعلم أيضاً يدل على الله تعالى من أقرب طريق، فمن سلك طريقه وصل إلى الله تعالى وإلى الجنة من أقرب طريق، والعلم أيضا يهتدى به فى ظلمات الجهل والشبه والشكوك ، ولهذا سمى الله كتابه نوراً ، وعن عبد الله بن عمرو عن النبى r  أنه قال : " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الناس ولكن يقبضه بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالم  اتخذ الناس رؤوساً جُهالاً فسئلوا  فأفتوا  بغير علم فضلوا  وأضلوا " ([8]) .
وسُئل عبادة بنُ الصامت عن هذا الحديث فقال : " لو شئت لأخبرتك بأول علم يرفع من الناس : الخشوع " .

وإنما قال عبادة  t هذا لأن العلم قسمان: أحدهما ما كان ثمرته فى قلب الإنسان ، هو العلم بالله تعالى ، وأسمائه ، وصفاته، وأفعاله المقتضى لخشيته ، ومهابته ،وإجلاله ، ومحبته، ورجائه، والتوكل عليه، فهذا هو العلم النافع كما قال ابن مسعود : " إن أقواماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع فى القلب فرسَخ فيه نفع"، وقال الحسن : " العلم علمان: علم اللسان فذاك حجة على ابن آدم ، كما فى الحديث " القـرآن حجة لك أو عليك" ([9])، وعلم فى القلب فذاك العلم النافع ، فأول ما يرفع من العلم العلمُ النافع، وهو العلم الباطن الذى يخالط القلوب ويصلحها، ويبقى علم اللسان فيتهاون الناس به  ولا  يعملون بمقتضاه، لا حملته ولا غيرهم،  ثم يذهب هذا العلم بذهاب حملته وتقوم الساعة على شرار الخلق " .
·       ومن الأدلة على فضل العلم وأهله كذلك :

قوله r : " لا حسد إلا فى اثنتين رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته فى الحق ، ورجل آتاه الله الحكمة  فهو يقضى بها ويعلمها " ([10]) .

وقوله r : " إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالا وعلماً فهو يتقى فى ماله ربه ويصل فيه رحمه ويعلم لله فيه حقاً فهذا بأحسن المنازل عند الله ،  ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهو يقول : لو أن لى مالاً لعملت بعمل فلان فهو بنيته وهما فى الأجر سواء ، ورجل آتاه الله مالاً  ولم يؤته علماً  فهو يخبط فى ماله لا يتقى فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم لله  فيه حقاً  فهذا بأسوأ المنازل عند الله، ورجل لم يؤته الله مالاً ولا علما فهو يقول : لو أن لى مالاً لعملت بعمل فلان  فهو بنيته وهما فى الوزر سواء"([11]) .

فعادت السعادة بحملتها على العلم وموجبه والشقاوة بجملتها على الجهل وثمرته .

قال الإمام أحمد : الناس محتاجون إلى العلم أكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب لأن الطعام والشراب يحتاج إليه فى اليوم مرة أو مرتين والعلم يحتاج إليه بعدد الأنفاس .

وقال سفيان بن عيينة : أرفع الناس منزلة من كان بين الله وبين عباده وهم الأنبياء والعلماء .
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم   وقدر كل أمرىء ما كان يحسنه   ففـز بعلمٍ تعش حـياً بـه أبدا ً           


على الهدى لم استهدى أدلاء        والجاهلون لأهل العلم أعداء        الناس  موتى  وأهل العلم أحياء



3 – أنواع القلوب وأقسامها:
قال تعالى : } إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً {   ( الإسراء من الآية : 36 ) . 
ولما كان القلب لهذه الأعضاء كالملك المتصرف فى الجنود، الذى تصدر كلها عن أمره ، ويستعملها فيما شاء فكلها تحت عبوديته وقهره، وتكتسب منه الاستقامة والزيغ ، وتتبعه فيما يعقده من العزم، أو يحله قال النبى r : " ألا وإن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسدُ كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهى القلب " ([12]) .

فهو ملكُها ، وهى المنفذة لما يأمرها به ، القابلة لما يأتيها من هديه، ولا يستقيم لها شىء من أعمالها حتى تصدر عن قصده نيته، وهو المسئول عنها كلها، لأن كل راعٍ مسئول عن رعيته: كان الاهتمام بتصحيحه، وتسديده، أولى ما اعتمد عليه السالكون ، والنظر فى أمراضه وعلاجها أهم ما تنسك به الناسكون .
لما كان القلب يوصف بالحياة وضدها، انقسم بحسب ذلك إلى ثلاثة أقسام:  القلب الصحيح أو السليم ، والقلب الميت ، والقلب المريض .

1 -  القلب الصحيح :

هو القلب السليم الذى لاينجو يوم القيامة إلا مَنْ أتى الله تعالى به، كما قال تعالى : } يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ {   ( الشعراء :الآية : 88 -89 ) . 

وقيل في تعريفه: إنه القلب الذي سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه ، ومن كل شبهة تعارض خبره ، فسلم من عيودية ما سواه، وسلم من تحكيم غير رسوله ، فخلصت عبوديته لله تعالى ، إرادة ومحبة ، وتوكيلاً ، وإنابة ، وإخباتاً وخشية ، ورجاء ، وخلص عمله لله ، فإن أحبَّ أَحَبَّ في الله ، وإن أبغض أبغض في الله ، وإن أعطى أعطى لله ،  وإن منع منع لله ، ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الإنقياد والتحكيم لكل مَنْ عدا رسوله r فيعقد قلبه معه عقداً محكماً على الإتمام والإقتداء به وحده ، دون كل أحد فى الأقوال والأعمال ، فلا يتقدم بين يديه بعقيدة ولا قول ، ولا عمل ، قال تعالى :
} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {   (الحجرات  : 1 ) . 

2 – القلب الميت :

وهو ضد القلب السليم ، فهو لايعرف ربه ، ولا يعبده بأمره ،  وما يحبه ويرضاه ، بل هو واقف مع شهواته ، ولذاته ، ولو كان فيها سخط ربه وغضبه ، فهو لايبالى إذا فاز بشهوته وحظه رضى ربه أم سخط ، فهو متعبد لغير الله ، إن أحب أحب لهواه ، وإن أبغض أبغض لهواه ،  وأن أعطى أعطى لهواه ، وإن منع منع لهواه ، فهواه آثر عنده ، وأحب إليه من  رضى مولاه، فالهوى إمامه والشهوة قائده ، والجهلُ سائقه ، والغفلةُ مركبهُ ، فهو بالفكر في تحصيل أغراضه الدنيوية مغمور ، وبسكرة الهوى وحب العاجلة مخمور، ينادى إلى الله وإلى الدار الآخرة من مكان بعيد فلا يستجيب للناصح ، ويتبع كل شيطان مريد ،  الدنيا تسخطه وترضيه ، والهوى يصمه عما سوى الباطل ويعميه ،  فمخالطة صاحب هذا القلب سقم ومعاشرته سمّ ،  ومجالسته هلاك.



3-            القلب المريض :

قلب له حياة وبه علة تمده هذه مرة وهذه أخرى ، وهو لما غلب عليه منهما ، ففيه من محبة الله تعالى ، والإيمان به والإخلاص له والتوكل عليه، ما هو مادة حياته ، وفيه من محبة الشهوات ، وإيثارها ، والحرص على تحصيلها ، والحسد والكبر ، والعجب ، ما هو مادة هلاكه وعطبه ، فهو ممتحن من داعيين:  داع يدعوه إلى الله ورسوله والدار الآخرة ، وداع يدعوه إلى العاجلة ، وهو إنما يجيب أقربهما منه باباً ، وأدناهما إليه جواراً .

فالقلب الأول : حيّ ، مخبت ، لين واع.

والثانى :  يابس ،  ميت .

والثالث : مريض ، فإما إلى السلامة أدنى، إما إلى العطب أدنى.



*  *  *

علامات مرض القلب وصحته

o     علامات مرض القلب :

قد يمرض قلب العبد ، ويشتد المرض ، ولا يعرف به صاحبه ، بل قد يموت وصاحبه لايعرف بموته ، وعلامة مرضه أو موته ، أن صاحبه لا تؤلمه جراحات المعاصى ، ولا يوجعه جهله بالحق ، وعقائده الباطلة ، فإن  القلب إذا كان حياً تألم بورود القبائح عليه ، وتألم بجهله بالحق – بحسب حياته – وقد يشعر  بالمرض ، ويشتد عليه مرارة الدواء ، فهو  يؤثر بقاء الألم على مشقة الدواء .

ومن علامات أمراض القلوب عدولها عن الأغذية النافعة إلى الضارة، وعدولها عن الدواء النافع إلى دائها الضار، فالقلب الصحيح يؤثر النافع الشافى على الضار المؤذى ، والقلب المريض بضدّ ذلك، وأنفع الأغذية : غذاء الإيمان ، وأنفع الأدوية : دواء القرآن .




o     علامات صحة القلب :

أن يرتحل عن الدنيا حتى ينزل بالآخرة، ويحل فيها حتى يبقى كأنه من أهلها، أو أبنائها ، جاء إلى هذه الدار غريباً يأخذ منها حاجته ويعود إلى وطنه، كما قال r لعبد الله بن عمر: " كن فى الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل " ([13]) .

وكلما مرض القلب آثر الدنيا، واستوطنها، حتى يصير من أهلها.

-  ومن علامات صحة القلب: أنه لايزال يضرب على صاحبه حتى ينيب إلى الله، ويخبت إليه ، ويتعلق به تعلق المحب المضطر إلى محبوبه، فيستغنى بحبه عن حب ما سواه، وبذكره عن ذكر ما سواه ، وبخدمته عن خدمة ما سواه .
- ومن علامات صحة القلب: أنه إذا فاته وِرْدهُ أو طاعة من الطاعات، وجَدَ لذلك ألماً أعظم من تألم الحريص بفوات ماله وفقده .
-  ومن علامات صحته: أنه يشتاق إلى الخدمة كما يشتاق الجائع  إلى الطعام والشراب  .
-  قال يحيى  بن معاذ: " من سر بخدمة الله سُرت الأشياء  كلها بخدمته ، ومن قرت عينه بالله  قرت عيون كل أحد بالنظر  إليه " .
-  ومن علامات صحته: أن يكون همه واحداً ، وأن يكون فى الله  يعنى فى طاعة الله -.
-  ومن علامات صحته: أن يكون أشح بوقته أن يذهب ضائعاً كأشد الناس شحاً بماله .
- ومن علامات صحته: أن يكون إذا دخل فى الصلاة ذهب عنه همه وغمه بالدنيا ووجد فيها راحته ، ونعيمه وقرةَ عينه ، وسرور قلبه.
- ومن علامات صحته: أن لا يفتر عن ذكر ربه ، ولا يسأم من خدمته، ولا يأنس  بغيره إلا بمن يدله عليه ويذكره  به .
-  ومنها: أن يكون اهتمامه بتصحيح العمل أعظم منه بالعمل ،  فيحرص على الإخلاص فيه ، والنصيحة ، والمتابعة ، والإحسان ،  ويشهد مع ذلك منةَ الله عليه فيه ، وتقصيره فى حق الله .



*  *  *


أسباب مرضُ القلبِ

والفتن التى تُعرض على القلوب هى أسباب مرضها، وهى فتن الشهوات والشبهات ،فالأولى : توجب فساد القصد والإرادة ، والثانية: توجب فساد العلم والإعتقاد  .

عن حذيفة بن اليمان t قال: قال رسول الله r : " تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير ، عوداً عوداً ، بأى قلب أشربه نكتت فيه نكتة سوداء ، وأى قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء ، حتى تعود القلب على قلبين : قلب أسود مرباداً كالكوز مجخياً ، لايعرف معروفاً ، لا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هـواه ، وقلب أبيض لاتضره فتنـة ما دامت السمـاوات والأرض "([14]) .
فقسّم r القلوب عند عرض الفتن عليها إلى قسمين: قلب إذا  عُرضت عليه فتنة أشربها كما يشرب السفنج الماء ،فتنكت فيه نكتة سوداء ، فلا يزال يشرب كل فتنة تعرض عليه حتى يسودّ وينتكس ، وهو معنى قوله : " كالكوز مجخياً " أى مكبوباً منكوساً ، فإذا اسودّ وانتعكس  عرض له من هاتين الآفتين مرضان خطران متراميان به إلى الهلاك .
أحدهما: اشتباه المعروف عليه بالمنكر، فلا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً وربما استحكم عليه هذا المرض حتى يعتقد المعروف منكراً والمنكر معروفاً والسنة بدعة ، والبدعة سنة ، والحق باطلاً والباطل حقاً 
الثانى: تحكيمه هواه على ما جاء به الرسول r وانقياده للهوى واتباعه له .
وقلب أبيض: قد أشرق فيه نور الإيمان ، وأزهر فيه مصباحه، فإذا عرضت الفتنة أنكرها وردها ، فازداد نوره وإشراقه .
4 – سموم القلب الأربعة :

أعلم أن المعاصى كلها سموم للقلب وأسباب لمرضه وهلاكه، وهى منتجة لمرض القلب وإرادته غير إرادة الله عز وجل ، وسبب لزيادة مرضه.
قال ابن المبارك :
رأيت الذنوب تُميت  القلوب         وقد يورث الذل إدمانُها.
وترك الذنوب حياة القلـوب       وخيرُ لنفسك عصيانُهـا.
فمن أراد سلامة قلبه  وحياته فعليه بتخليص قلبه من آثار تلك السموم ، ثم بالمحافظة عليه بعدم تعاطى سموم جديدة ، وإذا تناول شيئاً من ذلك خطأ سارع إلى محو أثرها بالتوبة والاستغفار ، والحسنات الماحية .
ونقصد بالسموم الأربعة: فضول الكلام ، وفضول النظر ، وفضول الطعام ، وفضول المخالطة ، وهي أشهر هذه السموم انتشاراً ، وأشدها تأثيراً فى حياة القلب .


1 – فضول الكلام :

الحمد لله الذى أحسن خلق الإنسان وعدّله ، وألهمه نور الإيمان فزينه به وجملهُ وعلمه البيان فقدمه به وفضله ، وأمده بلسان يترجم به عما حواه القلب وعقله، فاللسان من نعم الله العظيمة ولطائف صنعه الغريبة ، فإنه صغير جرمُهُ عظيم طاعته وجُرمه ، إذ لا يستبين الكفر والإيمان إلا بشهادة اللسان وهما غاية الطاعة والعصيان، ومن أطلق عذبة اللسان وأهمله مرخى العنان سلك به الشيطان فى كل ميدان وساقه إلى شفا جرف هارٍ إلى أن يضطره إلى البوار، ولا يكب الناس فى النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم، عن معاذ t عن النبى r قال: " وهل يكب الناس فى النار على وجوههم – أو قال : على مناخرهم – إلا حصائد ألسنتهم ؟ " ([15]) .
والمراد بحصائد الألسنة: جزاء الكلام المحرم وعقوباته فإن الإنسان يزرع بقوله وعمله الحسنات والسيئات ، ثم يحصد يوم القيامة ما زرع، فمن زرع خيراً من قولٍ أو عملٍ حصد الرامة، من زرع عشراً من قول أو عمل حصد الندامة .

وقد وردت الأخبار الكثيرة فى لتحذير من آفات اللسان وبيان خطره.

فمن ذلك قوله تعالى : } مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ {   ( ق :الآية : 18 ) . 

وعن سفيان بن عبد الله الثقفى قال: قلت يارسول الله ما أخوف ما تخاف علىّ ؟ قال : " هذا وأخذ بلسانه " ([16]) .

وعن عقبة بن عامر t قال: قلت يارسول الله ما النجاة ؟ قال : " أمسك عليك لسانك ... " ([17]) .
وقـال r: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت" ([18]).

وهو من جوامع كلمه r فالكلام إما أن يكون خيراً فيكون العبد مأمورا بقوله، وإما أن يكون غير ذلك فيكون مأموراً بالصمت عنه .



وعن أبى هريرة t أنه سمع رسول الله r يقول : " إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها فى النار  أبعد ما بين المشرق والمغرب " ([19]) .
وعن عبد الله بن مسعود t قال : " والله الذى لا إله إلا هو ليس شىء أحوج إلى طول سجن من لسانى " .

وكان يقول: "يا لسان قل خيراً تغنم ، واسكت عن شر تسلم من قبل أن تندم " .
وعن أبى الدرداء t قال : " أنصف أذنيك من فيك وإنما جعل لك أذنان وفم واحدٌ لتسمع أكثر مما تتكلم " .

وعن الحسن البصرى : قال : كانوا يقولون : إن لسان المؤمن وراء قلبه  فإذا أراد ا، يتكلم بشىء تدبره بقلبه ثم أمضاه ، وإن لسان المنافق أمام قلبه ، فإذا هم بشىء أمضاه بلسانه ولم يتدبره بقلبه .

·       فإذا قلت : فهذا الفضل الكبير للصمت ما سببه ؟

فاعلم أن سببه كثرة آفات اللسان من الخطأ والكذب والغيبة والنميمة والفحش والمراء وتزكية النفس والخوض فى الباطل والخصومة والفضول والتحريف والزيادة والنقصان وإيذاء الخلق وهتك العورات  فهذه آفات كثيرة وهى  سياقة إلى اللسان لا تثقل عليه ولها حلاوة فى القلب وعليها بواعث من الطبع ومن الشيطان ، فلذلك عظمت فضيلة الصمت ، مع ما فيه من جمع الهم، ودوام الوقار والفراغ للفكر والذكر والعبادة ، والسلامة من تبعات القول فى الدنيا ، ومن حسابه فى الآخرة فقد قال تعالى  :  } مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ {   ( ق :الآية : 18 ) .


2- فضول النظر:

فضول النظر:  هو إطلاقه بالنظر إلى الشىء بملء العين، والنظر إلى ما  لا يحل النظر إليه  وهو على العكس من غض البصر .

والغض: هو النقص وقد أمر الله عز وجل به فقال : } قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ  { (النور : الآية : 30 –وجزء من 31 ) .

وعن أبى هريرة t عن النبى r: " كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة، العينان زناهما النظر ،والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش ، والرِجْل زناها الخطى، والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه " ([20]) .
وعن جرير t قال : سألت رسول الله r : عن النظر الفجأة فقال: " اصرف بصرك " ([21]) .
وفضول النظر يدعو إلى الاستحسان ، ووقوع صور المنظور فى قلب الناظر ، فيحدث أنواعاً من الفساد فى قلب العبد منها :

أن النظرة سهم مسموم من سهام إبليس ، فمن غضّ بصره لله أورثه  حلاوة يجدها فى قلبه إلى يوم يلقاه .

ومنها : دخول الشيطان مع النظرة ، فإنه ينفذ معها أسرع من نفوذ الهواء فى المكان الخالى، ليزين صورة المنظور ، ويجعلها صنماً يعكف عليه القلبُ ، ثم يعده ويمنيه ، ويوقد على القلب نار الشهوات ويلقى  حطب المعاصى التى لم يكن يتوصل إليها بدون تلك الصورة .

ومنها: أنه يشغل القلب ، وينسيه مصالحه، ويحول بينه وبينها ،  فينفرط عليه أمره، ويقع فى اتباع الهوى والغفلة .

قال الله تعالى : } وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا {   ( الكهف : من الآية : 28 )

·       وإطلاق البصر يوجب هذه الأمور الثلاثة :

وقال أطباء القلوب: بين العين والقلب منفذ وطريق ، فإذا خربت العين وفسدت خرب القلب وفسد وصار كالمزبلة التى هى محل النجاسات والقاذورات والأوساخ ، فلا يصلح لسكن معرفة الله ومحبته،  والإنابة إليه ، والأنس به ، والسرور بقربه ، وإنما يسكن فيه أضداد ذلك .

وإطلاق البصر معصية لله عز وجل لقوله تعالى : } قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ  {   ( النور : الآية : 30 )

وما سعد من سعد فى الدنيا إلا بامتثال أمر الله ، ولا نجاة للعبد فى الآخرة إلا بامتثال أوامر الله عز وجلَ .
وإطلاق  البصر كذلك يُلبس القلب ظلمة، كما أن غضّ البصر لله عزّ وجلَ يُلبسه نوراً .

وقد ذكر الله عزّ وجل آية النور : } اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فيهَا مِصبَاحٌ  {   ( النور : من الآية : 35 ) ،  بعد قوله عز وجل  : } قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ  ..... {   ( النور : من الآية : 30 )


وإذا استنار القلب ، أقبلت وفود الخيرات إليه من كل ناحية ، كما أنه إذا أظلم ، أقبلت سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان .


وإطلاق البصر كذلك يعمى القلب عن التمييز بين الحق والباطل ،  والسنة والبدعة ، وغضهُ لله عزّ وجل يورثه فراسة صادقة يميز بها.

قال أحد الصالحين: " من عمّر  ظاهره باتباع السنة ،وباطنه بدوام المراقبة ، وغض بصره عن المحارم ، وكفّ نفسه عن الشبهات ، واغتذى بالحلال لم تخطىء  له فراسة " .
والجزاء من جنس العمل ، فمن غضّ بصره عن محارم الله أطلق الله  نور بصيرته .



3 – فضول الطعام :

قلة الطعام توجب رقة القلب، وقوة الفهم، وإنكسار النفس، وضعف الهوى والغضب ، وكثرة الطعام توجد ضد ذلك .

عن المقدام بن مَعْد يكرِب قال : سمعتُ رسولَ الله r يقول : " ما ملأ ابن آدم وعاءْاً شراً من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه " ([22]) .

وفضول الطعام داع إلى أنواع كثيرة من الشر ، فإنه يحرك الجوارح إلى المعاصى ، ويثقلها عن الطاعات والعبادات، وحسبك بهذين شراً ، فكم من معصية جلبها الشبعُ وفضولُ الطعام ، وكم من طاعة حال دونها، فمن وقى شرّ بطنه فقد وقى شراً عظيماً ، والشيطان أعظم ما يتحكم فى الإنسان إذا ملأ بطنه من الطعام ، ولهذا جاء فى بعض الآثار : إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة .

وقال بعض السلف: كان شباب يتعبدون من بنى إسرائيل، فإذا كان فطرهم قام عليهم قائم فقال : " لا تأكلوا كثيراً ،فتشربوا كثيراً ، فتناموا كثيراً فتخسروا كثيراً  " .

وقد كان النبى r وأصحابه يجوعون كثيراً- وإن كان ذلك لعدم وجود الطعام – إلا ان الله لايختار لرسوله إلا أكمل الأحوال وأفضلها، ولهذا كان ابن عمر يتشبه به فى ذلك مع قدرته على الطعام ، وكذلك كان أبوه من قبله .

عن عائشة ( رضى الله عنها) قالت : " ما شبع آل محمد   r منذ قدم المدينة من خبز بُرٍ ثلاث ليال تباعاً حتى قبض " ([23]) .

قال إبراهيم بن أدهم: " من ضبط بطنه ضبط دينه ، ومن ملك جوعه ملك الأخلاق الصالحة ، وإن معصية الله بعيدة من الجائع قريبة من الشبعان " .



4 – فضول المخالطة:

هى الداء العضال الجالب لكل شر ، وكم سَلبت المخالطة والمعاشرة من نعمة ، وكم زرعت من عداوة ، وكم غرست فى القلب من حزازات تزول الجبال الراسياتُ  وهى فى القلوب لا تزول ، ففى فضول المخالطة خسارة الدنيا والآخرة ، وإنما ينبغى للعبد أن يأخذ من المخالطة بقدر الحاجة، ويجعل الناس فيها أربعة أقسام متى خلط أحد الأقسام بالآخر ولم يميز بينها دخل عليه الشر  :

احدهما: مَن مخالطته كالغذاء لا يستغنى عنه فى اليوم والليلة فإذا أخذ حاجته منه ترك الخلطة ، ثم إذا احتاج إليه خالطه ، هكذا على الدوام، هُم العلماء بالله وأمره ومكايد عدوه ، وأمراض القلوب وأدويتها الناصحون لله ولكتابه ولرسوله r ولخلقه فهذا الضرب فى مخالطتهم الربح كلّ الربح .

القمسم الثاني: مَن مخالطته كالدواء ،يحتاج إليه عند المرض ، فما دُمتَ صحيحاً فلا حاجة لك فى خلطته ،وهم من لايستغنى عن مخالطتهم فى مصلحة المعاش وما أنت تحتاج إليه من أنواع المعاملات والاستشارة ونحوها، فإذا قضت حاجتك من مخالطة هذا الضرب بقيت مخالطتهم من :

القسم الثالث: وهم مَنْ مخالطته كالداء على اختلاف مراتبه وأنواعه وقوته وضعفه ، فمنهم من مخالطته كالداء العضال والمرض المزمن ،وهو من لاتربح عليه دين ولا دنيا ، ومع ذلك فلا بد أن تخسر عليه الدين والدنيا أو أحدهما ، فهذا  إذا تمكنت منك مخالطته واتصلت فهى مرضُ الموت المخوف ،  ومنهم الذى لايحسن أن يتكلم فيفيدك، ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك ، ولا يعرف نفسه فيضعفها  فى  منزلتها ، بل إذا تكلم فكلامه كالعصى تنزل على قلوب السامعين مع إعجابه بكلامه وفرحه به، فهو يُحدث من فيه كلما تحدث ويظن أنه مسك يطيب  به  المجلس  ، وإذا سكت فأثقل من نصف الرحا العظيمة  التى لا يطاق حملها ولا جرها على الأرض .

وبالجملة  فمخالطة  كل  مخالف  حمى للروح فعرضية ولازمة ، ومن نكد الدنيا على العبد أن يبتلى بواحد من هذا الضرب وليس له بد من  معاشرته ، فليعاشره بالمعروف ويعطيه ظاهره ويبخل عليه بباطنه حتى  يجعل الله له من أمره فرَجاً ،  ومخرجاً .

القسم الرابع:  من مخالطته الهلك كله ، فهى بمنزلة  أكل السم ، فإذا اتفق لآكله ترياق  وإلا فأحسن الله العزاء ، وما أكثر هذا الضرب  فى الناس – لأكثرهم الله – وهم أهل البدع والضلالة ، الصادون عن سنة رسول الله r ، الداعون إلى خلافها ، فيجعلون السنة بدعة والبدعة  سنة ، وهذا الضرب لاينبغى للعاقل أن يجالسهم أو يخالطهم، وإن فعل فإما الموت لقلبه أو المرض .

نسأل الله لنا ولهم العافية والرحمة .













5 -  أسباب حياة القلب وأغذيته النافعة:

اعلم أن الطاعات لازمة لحياة قلب العبد لزوم الطعام والشراب لحياة الجسد، وجميع المعاصى بمثابة الأطعمة المسمومة التى تفسد القلب ولابد، والعبد محتاج إلى عبادة ربه عزّ وجلّ فقير إليه فقراً ذاتياً ، وكما يأخذ العبد بالأسباب لحياة جسده من المداومة على تناول الأغذية النافعة فى أوقات متتقاربة ، وإذا تبين له أنه تناول طعاماً  مسموماً عن طريق الخطأ أسرع فى تخليص جسده من الأخلاط الرديئة ، فحياة قلب العبد أوْلى بالاهتمام من جسده ، فإن كانت حياة الجسد تؤهله لمعيشة غير منغضة بالمرض فى الدنيا، فحياة القلب تؤهله لحياة طيبة فى الدنيا وسعادة غير محدودة فى الآخرة، وكذلك موت الجسد يقطعه عن الدنيا ، وموت القلب تبقى آلامه أبد الآباد .

وقال أحد الصالحين:  " يا عجباً من الناس يبكون على من مات جسدهُ ولا يبكون على من مات قلبه وهو أشد " ، فإذن الطاعات كلها  لازمة لحياة القلب وتخص هذه بالذكر – لضرورتها لقلب العبد وشدة الحاجة إليها – ذكر الله عز وجل ، وتلاوة القرآن ، والإستغفار ، والدعاء ، والصلاة على النبىr ، وقيام الليل .

1-  ذكر الله وتلاوة القرآن:

وضرورة الذكر للقلب كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية- قدس الله روحه - : " الذكر للقلب كالماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا أخرج من الماء" ، وقد ذكر الإمام شمس الدين ابن القيّم ما يقرب من ثمانين فائدة فى  كتابه : " الوابل الصيب " ، فننقل بعضها بإذن الله تعالى، وننصح بالعودة إلى الكتاب المذكور لعظيم نفعه، ومن هذه الفوائد :

أن الذكر قوت القلب والروح، فإذا فقه العبد صار بمنزلة الجسم إذا حيل بينه وبين قوته ، ومنها أنه يطرد الشيطان ، ويقمعه ، ويكسره، ويرضى الرحمن عزّ وجلّ ويزيل الهمّ  والغمّ عن القلب، ويجلب له الفرح والسرور والبسط ، وينور القلب والوجه، ويكسو الذاكر المهابة والحلاوة والنضرة، ويورثه محبة الله عزّ وجل ، وتقواه ، والإنابة إليه،  وكذلك يورث العبدّ ذكر الله عزّ وجل ، كما قال تعالى :  } فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ { ( البقرة :من الآية 152 ) .

ولو لم يكن فى الذكر إلا هذه وحدها لكفى بها فضلاً وشرفاً ويورث جلاء القلب من الغفلة، ويحط الخطايا .

ورغم أنه من أيسر العبادات، العطاء والفضل الذى رتب عليه لم يرتب على غيره من الأعمال.

عن أبى هريرة  t أن رسول الله r قال: " من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد، وهو على كل شىء قديرٌ ، فى اليوم مائة مرة كانت له عدل عشرة رقاب ، وكتبت له مائة حسنة ، ومحيت عنه مائة سيئة ، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسى، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل  عمل أكثر منه " ([24]) .

وعن جابر عن النبى r قال: " من قال سبحان الله وبحمده غرست له نخلة فى الجنة "([25]) .

وقال ابن مسعود  t: " لأن أسبح الله تعالى تسبيحات أحب إلىّ من أن أنفق عددهم دنانير  فى سبيل الله عزّ وجلّ " .

والذكر دواء لقسوة القلوب ، كما قال رجل للحسن : يا أبا سعيد : أشكو إليك قسوة قلبى ، قال : " أذبه بالذكر " ، وقال مكحول : " ذكر الله شفاءٌ  وذكر الناس داءٌ  "، قال رجل لسلمان: أى الأعمال أفضل ؟ فقال : أما تقرأ القرآن : } وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ { ( العنكبوت من الآية : 45 ).


وعن أبى موسى عن النبى r قال: " مثل الذى يذكر ربه والذى لايذكر ربه مثل الحىّ والميت " ([26]).

ودوام الذكر تكثير لشهود العبد يوم القيامة ، وسبب لاشتغال العبد  عن الكلام الباطل من الغيبة والنميمة وغير ذلك، فإما لسان ذاكر وإما لسان لاغِ، فمن فُتح له بابُ الذكر فقد فُتح له بابُ الدخول على الله عز وجل، فليتطهر وليدخل على ربه عز وجل ، يجد عنده ما يريد، فإن وجد ربه عز وجل وجد كل شىء ، وإن فاته ربه عز وجل فاته كل شىء .

وللذكر أنواع : منها : ذكر أسماء الله عز وجل ، وصفاته ، ومدحه، والثناء عليه بها، نحو : " سبحان الله " ، و " الحمد الله " ،  و " لا إله إلا الله " ، ومنها: الخبر عن الله عز وجل بأحكام أسمائه وصفاته ، نحو : الله عز وجلّ يسمع أصوات عباده ويرى حركاتهم ، ومنها : ذكر الأمر والنهى كأن تقول : إن الله عز وجل أمر بكذا ، ونهى عن كذا .

ومن ذكره سبحانه وتعالى ذكرُ آلائه وإحسانه ، وأفضل الذكر : تلاوة القرآن ، وذلك لتضمنه لأدوية القلب وعلاجه من جميع الأمراض ، قال الله تعالى :  } يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ {   ( يونس من الآية : 57 ) .

وقال الله تعالى:  } وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ  {   ( الإسراء من الآية : 82 ) 

وأمراض القلب تجمعها أمراض الشبهات والشهوات ،والقرآن شفاء للنوعين ، ففيه من البينات والبراهين القطعية ما يبين الحق من الباطل فتزول أمراض الشبه المفيدة للعلم، والتصور ، والادراك بحيث يرى  الأشياء على ما هى .

فمن درس القرآن وخالط قلبه ، أبصر الحق والباطل وميزّ بينهما، كما  يميز بعينيه بين الليل والنهار ، وأما شفاؤه لمرض الشهوات فذلك بما فيه من الحكمة والموعظة الحسنة، بالتزهيد فى الدنيا ، والترغيب فى الآخرة.

وبالجملة فأنفع شىء للعبد هو ذكر الله عزّ وجلّ : } أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ  {  ( الرعد :28) .

وأفضل الذكر تلاوة كتاب  الله عزّ وجل ّ  .

قال الله تعالى:  } إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ   { ( فاطر :29  - 30) .

وعن عثمان t قال: قال رسول الله r: " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " ([27]) .

وعن عائشة (رضى الله عنها) قالت : قال رسول الله r  :" الذى يقرأ القرآن وهو ماهر  فيه مع السفرة الكرام البررة ، الذى يقرأ القرآن وهو يتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران " ([28]) .

وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله r: " إن من قرأ حرفاً من كتاب الله تعالى فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول ألم حرف  ولكن ألف حرف ولام حرف  وميم حرف  " ([29]) .
وقال خباب t: " تقرب إلى الله ما استطعت فإنك لن تتقرب إليه بشىء أحب إليه من كلامه " .

وقال عثمان بن عفان t: " لو طهرت قلوبكم  ما شبعتم من كلام ربكم " .

وقال ابن مسعود t: " من كان يحب أن يعلم أنه يحب الله فليعرض نفسه على القرأن ، فإن أحب القرآن فهو يحب الله فإنما القرآن كلام الله ".

2 -  الإستغفار: 

وهو طلب المغفرة ، والمغفرة : هى وقاية شر الذنوب مع سترها وقد كثر ذكر الاستغفار فى  القرآن ، فتارة يؤمر به كقوله سبحانه وتعالى : } وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ { ( المزمل من الآية : 20 ) .

وتارة يمدح أهله كقوله تعالى: } وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ { ( آل عمران من الآية : 17 ) . 

وتارة يذكر أن الله يغفر لمن استغفره كقوله تعالى: } وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا {   ( النساء من الآية : 110 ) . 

وكثيراً ما يقرن الاستغفار بذكر التوبة ، فيكون الاستغفار حينئذ عبارة عن طلب المغفرة باللسان .

والتوبة عبارة عن: الإقلاع عن الذنوب بالقلب والجوارح ، وحكم  الاستغفار  كحكم الداء ، فإن شاء الله أجابه وغفر لصاحبه ، لاسيما إذا خرج عن قلب منكسر بالذنوب أو صدف ساعة من ساعات الإجابة كالأسحار وإدبار الصلوات .

ويروى عن لقمان أنه قال لابنه: يا بنى عوّد لسانك : " اللهم اغفر لى " فإن لله ساعات لا يرد فيها سائلاً ،وقال الحسن: " أكثروا من الاستغفار فى بيوتكم ، وعلى موائدكم ، وفى طرقكم ، وفى أسواقكم، وفى مجالسكم ، وأينما كنتم ، فإنكم ما تدرون متى تنزل المغفرة " .

وعن ابن عمر t قال:  " إن كنا لنعد لرسول الله r فى المجلس الواحد مائة مرة يقول : "رب اغفر لى وتب علىّ إنك أنت التواب الغفور"([30]).

وعن أبى هريرة t عن النبى r أنه قال: " والله إنى لأستغفر الله وأتوب إليه فى اليوم أكثر من سبعين مرة "([31]) .

وعنه r قال: " إنه ليغان على قلبى وإنى لأسغفر الله فى اليوم مائة مرة " . ([32])
وبيّن الله عز وجل فى الحديث القدسى ثلاثة أسباب من أعظم أسباب المغفرة ، عن أنس  t قال : قال رسول الله r : قال الله تعالى : " ياابن آدم إنك ما دعوتنى ورجوتنى غفرت لك ما كان منك ولا أبالى، يابن  آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم  استغفرتنى غفرت لك ، ياابن آدم لو أتيتنى  بقراب الأرض خطايا ثم لقيتنى لا تشرك بى شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة " .

وبالجملة فدواء الذنوب الاستغفار ، قال قتادة : إن هذا القرآن يدلكم  على دائكم ودواءكم فأما  داؤكم فالذنوب ، وأما دواؤكم بالاستغفار ،  وقال علىّ  t : ما ألهم الله سبحانه عبداً الاستغفار وهو يريد أن يعذبه .

3-  الدعاء :

قال الله تعالى: } وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ { ( غافر:من الآية : 60 ) . فأمرنا الله عز وحل  بالدعاء ووعدنا بالإجابة ، ثم عقب بقوله عز وجـل : } إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ  {  ( غافر : من الآية : 60 ) .  
فسبحان الله العظيم ، ذى الكرم الفياض والجود المتتابع ، جعل سؤال عبده  لحوائجه وقضاء مآربه عبادة له ، وطلبه منه وذمه على تركه بأبلغ أنواع الذم فجعله مستكبراً عليه.

وعن أبى هريرة عن النبى r أنه قال: " من لم يسأل الله يغضب عليه " ([33])  وما أحسن قول القائل :

لا  تسألن  بنى آدّمَ حاجـَةً        وسَلَ الذى أبوابُهُ لا تحْجَبُ.

الله يغضبُ إن تركتَ سُؤالَهُ       وإذا سألت بنى آدم يغضَبُ.

وقال عز وجل : } أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ  { ( النمل: من الآية : 62  ) .  

وقال تعالى: } وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ { ( البقرة : من الآية : 186 ) .  
وعن النعمان بن بشير قال: قال r  : " الدعاء هو العبادة " ثم تلا  الآية : } وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ  { ( غافر: الآية : 60 ) ([34]).  

والدعاء يقطع بقوله لعموم الآيات التى قدمنا ذكرها ، وكذلك  الأحاديث الآتية -  إذا استوفى شروط الصحة .

وعن سلمان t قال: قال رسول الله r: " إن الله حييىّ كريم يستحى إذا رفع الرجـل يديه أن يردهما صفـراً خائبتـين " . ([35])

وعن أبى سعيد الخدرى ، أن النبى r قال : " ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث : إما أن يعجلله دعوته ، وإما أن يدخرها فى الآخرة، وأما أن يصرف عنه من السوء مثلها" . ([36])
وعن عمر بن الخطاب t : " أنا لا أحمل همّ الإجابة ولكن أحمل هم الدعاء فمن ألهم الدعاء فإن الإجابة  معه " .

فالدعاء سبب مقتضِ  للإجابة إذا توفرت الشرائط وانتفت الموانع أى إذا راعى العبد آداب الدعاء ، فما هى آداب الدعاء ؟.